أين ذاتي؟

الاختلاء مع الذات بعد فترة طويلة من زحام الحياة والابتعاد قليلًا او ربما كثيرًا هي حاجة ملحّة للشعور بالراحة واعادة ترتيب انفسنا وافكارنا من جديد بعد ان قامت الحياة ببعثرتها.

ربما يختلف اسلوب ترتيب افكارنا او اعادة تشغيل ذاتنا من شخص إلى آخر؛ لكنني وجدت ضالتي بالابتعاد والتجول بشوارع المدن بلا هدف متتبعًا لحركة سكانها، منصتًا لضجيج اسواقها ومتأملًا بتفاصيل ازقتها ومبانيها.
كانت وجهتي إلى مدينة الإسكندرية، ليست هي المرة الأولى ولكن كان هدف زيارتي لها هذه المرة مختلفًا عن سابقاتها، غادرت متجهًا إليها باحثًا عن ذاتي من جديد.

تعمدت تقليل استخدام هاتفي في اليوم الأول حتى تمكنت من الأمساك برأس خيط ذاتي التائهة، نزلت وبدأت رحلة السير وكلما زادت سرعة خطواتي كانت سرعة تفكيري وتزاحم الافكار تزداد كذلك، كانت هذه العملية جيدة لسرعة حرق الأفكار الزائدة والحفاظ على المهمة منها، تستطيع تشبيه الأمر بالحركة وحرق الدهون المتراكمة التي لا فائدة منها سوا الوزن الزائد واعاقة الحركة، او ربما قد يكون الامر اشبه بالمنخلة وتساقط الافكار عديمة الفائدة خلال المشي.
كنت متخوفًا من طبيعة الأجواء هناك ولكن كنت سعيدًا بنسمات الهواء الباردة المختلطة بأشعة الشمس الحارقة؛ نتج عنها مزيجًا مميزًا مثل ذلك الذي ينتج عن مزج كوب من الأسبريسو مع الحليب لتكون نتيجته كوب رائع من اللاتيه!

لا اعلم ما السبب في ثقل خطواتي على ارضية المكتبات وبطء تنقلات عيناي بين رفوفها وعناوين كتبها، كان هذا الأمر صعبًا مع مكتبة تحوي مليوني كتاب ومعارض فنية وتاريخية ومعرضًا للمخطوطات القديمة، اربعة ساعات كانت كافية لاخذ نظرة سريعة عن المكتبة كتصفحك لأحد الكتب قبل شرائها، لكنها لم تكن كفيلة باستيعابك لها لتكون زائرًا حقيقيًا لتفاصيل مكتبة الإسكندرية!

تركت القيادة لقدماي لانشغال ذهني، قادتاني إلى قلعة قايتباي وإلى احد شبابيكها المطلة على البحر تحديدًا، كانت قيلولة هادئة؛ اخرجتني اصوات الامواج المرتطمة باسوار القلعة من دائرة التفكير التي استمرت ليومين، قيلولة هادئة غير مخطط لها مع رذاذ المياه المتطايرة من امواج البحر.

لم تكن هذه الرحلة سياحية اكثر من كونها رحلة للاختلاء بالذات، لم تكن كافية ولكن كان علي العودة للشروع بمخطط اجازتي الجامعية ووضع اساسات مرحلتي الحياتية القادمة، فالحياة غير مقتصرة على الجامعة وصفوف الدراسة فقط، وان كنت تعيشها هكذا اظن انه عليك اعادة النظر إليها بصورة اوضح.

امشوا وتوهوا الحياة قصيرة.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *